بحث حول الخطابة في عصرها الذهبي
- مفهوم الخطابة في عصرها الذهبي
الخطابة
هي الكلام المنثور الذي يُخاطب به المتكلم جمعاً من الناس من أجل إقناعهم بقضيّة أو أمرٍ ما؛ والخطيب هو الذي يقوم بالخطابة، وفي تعريف العلماء هي الكلام المؤلَّف الذي يتضمن وعظاً، وإرشاداً، وإبلاغاً على صفةٍ مخصوصة.
هي أيضاً فنُ المشافهة للتأثير على الجمهور واستمالتهم، وللخطابة عناصر تتألف منها من أهمها الأسلوب، والموضوع. سنتعرف في هذا المقال على الخطابة في عصرها الذهبيّ، وعلى أنواعها.
- عوامل ازدهار الخطابة وتطورها
تعرضت الحياة العربية بمجيء الاسلام وانتشاره لانقلاب شامل وتطور بعيد المدى , كان للعرب قبل الاسلام مفاهيم ومثل عليا ومبادئ فرضتها بيئتهم الجاهلية وحياتهم القبلية , وجاء الاسلام فحمل الى العرب مفاهيم جديدة ومثل عليا تغاير مثل الجاهلية وجعلهم ينظرون الى الحياة من زاوية جديدة , وقد اصبح العرب دين توحيدي يجمع شمل الكثرة من قبائلهم , ونظام سياسي يعيشون في ظله , وتناول التطور كذلك حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعقلية , وهذا ابرز حدث في تاريخ العرب .
كانت مظاهر التطور في النثر اوضح منها في الشعر , لان الشعر فن تقليدي يترسم فيه الشاعر خطا سابقيه ويلتزم اصولا محددة , ولذلك يكون ابطا من النثر استجابة لدواعي التطور , وهذا يفسر احتفاظ الشعر في العصر الاسلامي بكثير من الطوابع الجاهلية .
اذن مجيء الاسلام ابرز الاحداث التي كان لها اثرها في تطور فن الخطابة , ولهذا انبرت الخطابة تشرح الدعوة الاسلامية , وتؤيدها وتدعو اليها , وتدافع عنها , وتبين اهدافها الكبرى , ومثلها العليا , لان الخطابة اقدر على شرح الحقائق , ومناقشة المسائل ,فهي طريق الاقناع بالحجج العقلية ,والبراهين المنطقية , والمؤثرات الوجدانية , ولأنها في مجال القول يتسع فيها لإفهام الخاصة والعامة , ولان القران لم يعرض لها بما ينفر منها , او يزهد فيها , بل انها كانت عدة الرسول في كل موقف مشهود , وقد رفع صلى الله عليه وسلم لواءها من يوم ان نزل قوله تعالى " وانذر عشيرتك الاقربين " فأتى الصفا فصعد عليه , ثم نادى " يا صباحاه " فاجتمع الناس عليه فقال " يا بني عبد المطلب , يا بني فهد , يا بني كعب , ارأيتم لو اخبرتكم ان خيلا بسفح هذا الجبل تريدان تغير عليكم , اكنتم مصدقي ؟ " قالوا نعم . ما جربنا عليك كذبا . قال : " اني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " , وبهذا اتخذ الرسول الخطابة اداة لنشر دعوته واقناع المشركين بصدق رسالته . ثم اتخذها بعد الهجرة لإيضاح تعاليم الاسلام وعظ بها المسلمين وارشادهم الى ما فيه صلاحهم , وما لبث هذا الضرب من الخطابة ان اصبحت له تقاليد واصول خاصة به .
ودعا الرسول (ص) المسلمين الى الجهاد لنشر الدعوة الاسلامية في الامم المجاورة لعرب فوجد ضرب لخر من الخطابة الغاية منه الحث على الجهاد في سبيل الله . وما لبثت خطبة الجهاد ان ازدهرت باتساع الفتوح الاسلامية وجدت طبقة خاصة من الخطباء تولى الحث على الجهاد وتذكير المسلمين بما ينتظرهم من الثواب الكريم اذا احسنوا البلاء في قتال المشركين .
وكان الرسول وخلفاؤه من بعده يبعثون العمال والولاة الى الامصار فاذا قدم الوالي مصره قام خطيبا في الناس وبين لهم خطته التي سيسير عليها . وقد اصبحت هذه الخطبة سنة للخلفاء والولاة يستهلونبها ولايتهم .
ولظهور الاحداث السياسية التي طرأت على المجتمع الاسلامي اثرها في تطور الخطابة وازدهارها , فبعد وفاة الرسول (ص) اختلف الناس في امر الخلافة وتنازعها المهاجرون والانصار ,, واستعان كل فريق بالخطابة في تأييد حقه فيها , فكانت خطب السقيفة اول ما عرفه العصر الاسلامي من الخطب السياسية .
وظهرت طلائع الفتن الداخلية , فكان ظهورها عاملا في كثرة الخطباء , فنجد الخطابة تلعب دورا هاما في فتنة عثمان , وقبله ابو بكر , ثم ابان خلافة الامام علي (ع) حين انقسم المسلمون مذاهب واحزابا كل منها يريد الخلافة لنفسه . فكان على الخطيب تاييد حزبه ودعوة القوم الى نصرته والى مجاهدة خصومه .
فهذه الاحداث التاريخية كلها عامل فعال في ازدهار الخطابة في صدر الاسلام تضاف اليها الفتوح الخارجية التي اتسع نطاقها زمن عمر وعثمان . كما كان للحياة الحضرية الجديدة التي عرفها العرب ولقيام حكومة نظامية لها دستورها وانظمتها , ثم اختلاط العرب بالأعاجم واتصالهم حضارتهم , كان لهذا كله اثره في تطور الخطابة في هذا العصر واتسامها بسمات لم تعرفها من قبل .
- مفهوم الخطابة في عصرها الذهبي
كانت الدولة العباسية الجديدة بحاجة إلى ترسيخ وإثبات حقها في الخلافة؛ لذا كان للخطابة شأن كبير في أوائل هذا العصر ممّا كان سبباً في تطورها وازدهارها، فمن أشهر خطبائه الأوائل واللامعين: السفاح، والمنصور، والمهدي.
كانت الخطبة تُلقى على مسامع الناس لأغراضٍ مختلفة، فالخطب السياسيّة مثلاً هي التي يُلقيها القادة في استقبال القبائل والوفود المختلفة، أو في تحميس وتشجيع الجنود من أجل التجهيز للمعارك، إلى جانب الخطب الدينية التي تُقال وتُلقى في الأعياد وأيّام الجُمع، وكذلك الخطب الاجتماعيّة في المدح، أو الذم، أو الاستعطاف، أو العتاب.
تميّزت الخطابة في أوائل العصر العباسيّ بعدة خصائص وسمات منها: جزالة الألفاظ والعبارات، وعدم الالتزام والإكثار من السجع في أواخر الجمل، وبكثرة الاستشهاد بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبوية الشريفة، كما وغلب عليها القصر والإيجاز، إلاّ في بعض الحالات التي تدعو إلى الإسهاب.
لما ضعفت الدولة العباسيّة، وسيطر العجم من سلاجقة، وبويهيين على الخلافة، ضعفت الخطابة، وأصبحت الكتابة أكثر انتشاراً، فلم يعد الخلفاء والقادة قادرين على قول الخطابة كأسلافهم السابقين، فاقتصرت الخطابة على المناسبات الدينية في العيدين ويوم الجمعة، وما لبث إلاّ أن ازداد الأمر سوءاً في أواخر العصر العباسيّ، فضعفت الخطابة الدينية أيضاً، وأصبح خطباء الجوامع يرددون ما كتبه أسلافهم، ويقرؤونها من الكتب على المنابر.
- أنواع الخطبة
1) الخطب السياسية
هي من أصعب فنون الخطابة، وهدفها هو تحريك همم الأفراد نحو أهدافهم ومصالحهم، أو إقناع مجموعة معيّنة بالأفكار والعقائد السياسية التي ينتمي إليها الخطيب، أو بهدف إبطال وتكذيب حجج الأعداء والخصوم، أو للدفاع عن بعض الآراء والقرارات.
2) الخطب العسكريّة
الهدف منها إنهاض همم الجنود من أجل القتال، وإذكاء روح الحماسة لديهم، وتهوين الموت، وتجميل التضحية في سبيل الله، وخير مثال عليها خطبة طارق بن زياد بعد أن أحرق سفنه في فتح الأندلس: "أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلاّ الصدق والصبر".
3) الخطب الدينية
ازدهرت في البدء في الكنائس، وبمجيء الإسلام ازدهرت في المساجد، وحلقات الذكر، حيثُ اشتهرت خطبتان إسلاميتان منذ القدم وحتى يومنا هذا وهما: خطبة الجمعة، وخطبة العيدين، فهي تتميّز بدعوة الناس لتهذيب النفس على مكارم الأخلاق والابتعاد عن الظلم والجَور.
- قصة اقصر خطبة جمعة في تاريخ الاسلام
محمد الطاهر بن عاشور عالم وفقيه تونسي، أسرته منحدرة من الأندلس ترجع أصولها إلى أشراف المغرب الأدارسة تعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته ، صعد الأمام محمد الطاهر بن عاشور على منبر جامع الزيتونة وذلك في إحدى خطب يوم الجمعة ونظر إلى المصلين و قال ”: نساء شكون إلي في الأسواق؟” فلم يتكلم المصلون ، هو يقصد “نساء من فى الأسواق الأن؟” ولكن باللهجة التونسية ثم قالها مرة أخرى “نساء شكون إلي في الأسواق؟” فلم يتكلم المصلون ، وكان يجلس الشيخ فقام ثم قال “ﻻ خير في صلاتكم و نسائكم عرايا” ثم قال أقم الصلاة . لا يوجد إلى الأن دليل مصور او تذكار لتلك الحادثة لعدم حدوثها في وقت التصوير للخطب .
- خطبة الرسول صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع:الحمدُ لله نحمدُهُ وَنَسْتَعِينُه ، ونَسْتَغْفِرُهُ ، ونَتُوبُ إليه ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سيّئآتِ أعْمَالِنَا مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضَلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ . وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحْده لا شريك له، وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه. أوصيكُم عبادَ الله بتقوى الله ، وأحثّكم على طاعته! وأستفتح بالذي هو خير. أَمَّا بعد، أيّهَا النّاس، اسْمَعُوا منّي أُبّينْ لَكُمْ، فَإنّيَ لاَ أَدْرِي، لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، في مَوْقِفي هذا، أَيُهَا النَّاس، إنّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِ كُمْ هَذَا في بَلَدِكُم هَذَا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانةٌ فليؤُدِّها إلى مَنْ ائْتمَنَهُ عَلَيها، وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، و قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عمي العباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم عامر ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية ، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قَوَدٌ ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية. أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم أيها الناس ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض و﴿ إِنَ عِدَّةَ الشهور عند اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً ﴾ منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان. أما بعد أيها الناس ، إن لِنسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حقاً، ولَكُمْ عَلَيْهِنّ حقّ، لَكُمْ عَليِنّ ألا يُوطْئنَ فُرُشَكُمْ غيرَكم وَلا يُدْخِلْنَ أحَداً تكرَهُونَهُ بيوتَكُمْ، ولا يأتينَ بِفَاحِشَة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي ، أَيهَا النّاسُ، إنّما المُؤمِنُونَ إخْوةٌ ، فَلاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، أَلاَ هَلْ بلّغْتُ، اللّهُم اشْهَدْ، فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض فَإنّي قَدْ تَركْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذتمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، كِتَابَ اللهِ وَ سُنَّة نَبيّه ، أَلاَ هَلْ بلّغتُ، اللّهمّ اشْهَدْ. أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد" قَالُوا: نَعَمْ قَال: فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ والسلامُ عليكم ورحمة الله!
Tags
مستوى ثانوي
العفو
ردحذف